أعطى الله تعالى لسليمان عليه السلام النبوة والملك، وعلمه منطق الطير، وجمع له جنودًا من الجن والإنس والطير، وكان سليمان إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير، فنظر يومًا فرأى من أصناف الطير ما حضر، إلا الهدهد، فقال: ما لي لا أرى الهدهد أخطأه بصري بين الطير، أم غاب فلم يحضر؟ ولما تحقق له غيابه دون استئذان توعده بالعذاب أو الذبح إلا أن يأتي بحجة قوية مبينة لعذره.
فلما عاد الهدهد قال لسليمان عليه السلام: اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك، وجئتك من سبأ بخبر لا ريب فيه.
إني وجدت امرأة عظيمة العقل والجاه تملك قومها وقد أعطاها الله والعزة والجاه، ووجدت هذه الملكة وقومها يسجدون للشمس عابدين لها.
قال سيدنا سليمان ردًّا على الهدهد: سنتحرى ونعرف أصدقت فما قلت، أم أنك كنت من جملة أهل الكذب؟ توجَّهْ إليهم بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تنحَّ عنهم إلى مكان تختفي فيه عن أبصارهم وتسمع كلامهم، ثم انظر وتعرَّف ما يجيبون.
فلما وصلها قالت الملكة لأشراف قومها: يا أيها الأشراف من قومي، إني ألقي إليَّ كتاب كريم في شرفه وشرف مرسله وعلو مكانه، يدعونا فيه سليمان بالإيمان بدعوته؛ فأشيروا عليَّ بما عندكم من الرأي.
قال الملأ من قومها: نحن أصحاب قوة فائقة، ولك علينا الطاعة في كل ما تريدين.
قالت بلقيس، وقد أحست من قولهم الميل إلى الحرب، فأرادت ردهم إلى الرشاد: إن شأن الملوك إذا فتحوا قرية أتلفوا ما فيها من أموال، ونكسوا أحوالها، وجعلوا أعزة أهلها وسادتها أذلة مهانين بالقتل، والأسر والإجلاء وغير ذلك من صنوف الإهانة والإذلال، وإني مرسلة إليهم بهدية عظيمة حافلة تليق بالملوك، فإن كان ملكًا دنيويًّا أرضاه المال، وإن كان نبيًّا لم يُرضِه المال.
فلما جاء الرسولُ سليمانَ عليه السلام بالهدية قال: أتعطونني مالًا وعندي منه ومن غيره كثير، فما أعطاني الله من الملك والمال والنبوة خير مما أعطاكم، فلا أطمع في مال ولا أفرح به، بل أنتم الذين تفرحون بالمال الذي يهدى إليكم وتحرصون عليه.
وقال للرسول: ارجع إلى بلقيس وقومها بالهدية، وبلِّغهم مقالتي بشأنها، ووجوب استسلامهم إلينا، فإن لم يأتوا مسلمين فوالله لنأتينهم، ولندفعن إليهم بجنود لا طاقة لهم بلقائها ولا قوة لهم على قتالها، وليكونن لنا الغلب عليهم، ولنخرجنهم من مملكتهم –سبأ- أذلةً مهزومين وهم صاغرون أسارى مستعبدون.
فعرفت أنه نبي لا طاقة لها بقتاله، وتجهَّزت للمسير إليه، وعلم سليمان بخروجها إليه فقال: يا أيها الملأ أيكم يحضر لي عرشها على حاله التي هو عليها قبل أن تأتيني هي وقومها منقادين طائعين؟ ليريها القدرة التي مكن الله تعالى له فيها.
قال عفريت من الجن: أنا آتيك به قبل أن ينفضَّ مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء. قال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرجع إليك بصرك الذي تمده في الفضاء.
فلما رأى سليمان العرش حاضرًا أمامه، قال: هذا النصر والتمكين مما تفضل به عليَّ ربي ليختبرني أأشكر نعمته عليَّ أم أكفرها.
قال سليمان لمن حوله من الجنود والأتباع: غيروا لبلقيس معالم عرشها، وبدلوا أوضاعه بحيث تختلف فيه الرؤية، لنعرف من حالها، أتهتدي إلى أنه عرشها، أم تكون من ضعف الملاحظة، ودقة الإدراك بحيث لا تعرفه.
فلما جاءت بلقيس قيل لها على سبيل الاختبار: أمثل هذا عرشك الذي تركته ببلادك؟ قالت: كأنه هو، حيث لم تقطع بأنه هو.
قيل لبلقيس بعد أن أدت الامتحان الذي أريد لها، وظهرت رجاحة عقلها ودقة إدراكها للأمور: ادخلي القصر.
وقد قيل: إن سليمان عليه السلام كان قد أمر الجن حين قدومها فبنوا لها قصرًا على طريقها من زجاج أبيض أملس، وأجرى من تحته الماء، وألقى في الماء ما يكون فيه عادة من حيتان وأصداف، ووضع سريره في صدره، فجلس عليه، ليزيدها استعظامًا لأمره، وتحققًا من نبوته، وثباتًا على الدين، فلما رأت القصر، وعاينت هيئته وأحواله ظنته ماء غمرًا فكشفت عن ساقيها؛ حذرًا من أن يبتلَّ طرف ثوبها، فلما تبين لها حقيقته قالت، وقد رأت هذه القدرة الفائقة: ربِّ إني ظلمت نفسي بقيامي على عبادة الشمس، وأسلمت لله رب العالمين مع سليمان متابعة له.
(من يتأمل في بديع خلق الله، فسيعلم حتمًا أن الله تعالى هو الحقيق بأن يُعبد بحق، فإنه وحده ربُّ هذا الكون وإلهه).